البروفسور يونس يوسف أبوغليون
ولدت في مدينة الزرقاء عام 1954م ودرست في مدرسة النصر الثانوية والتي سميت لاحقاً باسم مدرسة الثورة العربية الكبرى. كان علي أن أقطع سكة القطار قبل الدخول إلى المدرسة، ولأنني بقيت في هذه المدرسة اثني عشر عاماً كانت سكة القطار جزءاً من طفولتي حين إذهب إلى المدرسة من الغويرية التي كانت آنذاك ضاحية نائية تقع غرب السكة، وأبرز ما يميزالغويرية وجود الحاووز وقصر شبيب من الجهة الغربية. كم مررت على السكة وشارع الحاووز وأنا أذاكر لإمتحانات التوجيهي. والطريف في مشوار الطفولة أنني كنت أمر على مدرسة دير اللاتين التي أمضيت منها سنة حضانة قبل إلتحاقي بمدرسة النصر، كنت إذهب إليها بمساعدة بنت الجيران، حيث كانت الدراسة مختلطة وكانت سنة الحضانة أول إطلالة لي على الدين المسيحي.
وفي أحد الأيام زارتنا جدتي ورأتني ألبس فستاناً قصيراً عند الذهاب إلى المدرسة، وسارعت إلى سؤالي عن ما إذا كنت أحفظ الفاتحة، وحفظ الفاتحة كان مؤشراً مهماً لجودة التعليم في ذلك الزمان. رحم الله جدتي ما كانت تعلم أن الفاتحة هي الفاتحة ولكن اليد ليست يد عمر. كانت مدرسة النصر تتبع قسم الثقافة في الجيش تحت إشراف عثمان بدران (أبو عمر) رئيس قسم الثقافة. كانت مدرسة النصر في عهد عثمان بيك بدران تعيش عصرها الذهبي في مرحلة الستينات. لا زلت أذكر أستإذ الرياضيات سلطي سلايطة، والأستإذ حيمور، والأستإذ حمدي وجميعهم في رحمة الله. ولا زلت أذكر بعض الخريجين لمدرسة النصر أمثال همام سعيد، وبعض أصدقاء الطفولة الشريف محمد حسن أبو هاشم (مقيم في السعودية)، وخالد وروير هشال (عميد متقاعد)، ورياض خليف شداخ (طبيب اسنان).
كنت بين خيارين بعد إعلان نتائج التوجيهي عام 1973م إما إعادة التوجيهي وإما الدراسة في كلية التجارة في الجامعة الأردنية. ولأن رغبتي كانت دراسة الطب ولا شيء غير الطب، فالطب كان في ذهني يرتيط بالثراء السريع والكفاءة العلمية والوجاهة الاجتماعية. فضلت العمل كمتدرب في برنامج لإعداد فني المختبرات تحت إشراف أول عميد لكلية الطب في الجامعة الأردنية البروفيسور هوارث. كانت الكلية تحت الإنشاء وكنت أقف مع العميد وأستإذ التشريح للإشراف على غرفة التشريح وإعداد شرائح الهستولوجي لطلبة الطب بمساعدة مستر ستيف وارشبلد وستوكر، لن انسى يوماً من الأيام عندما طلب مني البروفيسور بدنيرجي أستإذ الفسيولوجي لعمل تخطيط لقلبي وحولي بعض الطالبات وأذكر أنه وضع بعض المجسات على صدري وقال لي وهو يبتسم لهن:
“Your heart is normal unless you gave it to a girl”
وتخرجت في الجامعة الأردنية وأنا أحمل دبلوم فني مختبرات والذي ساعدني فيما بعد للعمل في الجامعة الأردنية في كلية العلوم والزراعة وكانت أيضاً كليات ناشئة تحت إشراف العمداء عدنان بدران، وصبحي القاسم. وزاد إعجابي بهم حيث كنت أنظر إليهم كآباء روحيين. الأب الروحي يعلمك الصبر والمثابرة، يعلمك الأدب والحكمة والبديهة وسرعة الخاطر. هذا الطبع تميزت به طيلة سنوات العمر وكانت تعرفني بسببه رئاسة الجامعة وعمادة الكلية حتى طلبة الدراسات العليا أثناء المناقشة والتخرج. لقد دربت نفسي على أن أكون ناقداً أو منقوداً وعدم الإنقياد إلى المزاج الشخصي ولم تعد ردود الفعل من الآخرين تثيرني أو تستفزني إلا بمقدار ما فيها من موضوعية يمكن مناقشتها.
هذه توطئة فقط لمرحلة من حياتي قبل أن أترك العمل وأذهب إلى جامعة اليرموك في عام 1977 م للدراسة في كلية العلوم وبالتحديد في قسم الأحياء. لم أكن أعلم أنني مقبول في كلية من أصعب كليات الجامعة على الإطلاق، ولم أكن أعلم أن العلوم النظرية هي الأساس للعلوم التطبيقية مثل الطب والهندسة. الطريف إنني تخرجت من جامعة اليرموك لإكمال دراستي الجامعية في جامعة ولاية أوهايو، وتخصصت في علم وظائف الأعضاء وهو التخصص الذي يمكن وصفه بالطب حتى النخاع، وأنه يتم تخصيص جزء من جائزة نوبل للأشخاص الذين يقومون بإجراء إكتشافات مهمة في الطب أو علم وظائف الأعضاء. من الجدير بالذكر أنني كنت أعاني في صغري من صعوبة التفريق بين الضاد والظاء، ومرت الأيام لتكشف لي أن تخصص الفسيولوجي في الطب جميل في مسماه عميق في بلاغته أيضاً فهو يجمع الضاد والظاء معاً.
بعد تخرجي من Ohio State University من ثم حصلت على درجة الدكتوراه في عام 1987م عملت في كليات العلوم والعلوم التطبيقية والطبية مدرساً لعلم الفسيولوجي وباحثاً في أمراض العضلات في كل من الجامعات اليرموك ,الهاشمية وتبوك …..إلخ. لا أدري لماذا مر هذا الشريط من الذاكرة طوال ربع قرن وحلم الهجرة لم يفتأ يداعب عقلي. كبرت العائلة وعقدة التوجيهي تنتظر أفراد الأسرة واحداً بعد الآخر وأنا على يقين بأن النجاح في الحياة لا يعني النجاح في التوجيهي، وزاد قلقي وإهتمامي بعظم المسؤلية الملقاة على عاتقي وعندما تعمقت في نفوس الأبناء أحلام التعليم التطبيقي.
التحديات:
أدرك أبنائي و بناتي والكثير من طلابي وطالباتي أنهم سيكونون ضمن ربع مليون راسب توجيهي خلال 3 سنوات والجامعات الخاصة والكليات التقنية مهددة بالاغلاق، الأمر الذي سيؤدي إلى عدم نجاح فكرة التعليم التقني المتوسط. وهذه المشكلة تتعدى الأسرة، فعلى سبيل المثال، فنلندا تعد الدولة الثامنة من حيث المساحة في أوروبا، وأقل بلدان الإتحاد الأوروبي كثافة سكانية، وتتزعم فنلندا قائمة أفضل بلد في العالم في استطلاع مجلة نيوزويك لعام 2010 م من حيث الصحة والاقتصاد والتعليم والبيئة السياسية ونوعية الحياة، كما تعتبر فنلندا ثاني أكثر البدان استقراراً في العالم. فلمإذا لا يكون هذا الوضع في بلادنا؟ على الرغم من محافظة المعلمين في فنلندا على سريان المعيار الحكومي على المناهج دون التقيد بمنهاج مكتوب، والجميل أن المعلم له حق تقسيم المادة واختيار الدروس التي يريد إعطاءها وطريقة التدريس حسب رغبته واقتناعه بأهمية المواد وشموليتها ومحافظتها على المحتوي العلمي القوي، وهذه الخطوة لا تتم طبعاً الا بوجود نخبة من المتميزيين أصحاب الدراسات العليا وفي مراحل معينة يجب أن يكونوا حاصلين على الماجستير على الأقل، وفي بعض المراحل يكونون حاصلين على شهادة الدكتوراه، وهذه الطريقة لا تعمل على التلقين وإنما تدفع الطالب للبحث والاستفسار والاكتشاف. وفي مراحل معينة يتم عمل اختبارات من قبل المعلمين أنفسهم، وتبقى النتائج سرية إلى أن يطلبها مجلس التعليم الوطني بهدف تحسين آلية التعليم فقط، إذ إن أكثر ما يهمهم هو تحسين عملية التعليم وتقوية مسيرتها وليس العلامات والنجاح والقبول بالجامعات، كما هي مشكلة الطلبة العرب بمراحل التعليم العام المختلفة.
الهجرة:
كنت أدرك أن العالم العربي يحاصر بنظام معرفي مبرمج وما زالت الدول العربية في مؤخرة القافلة فيما يخص صيرورة البحث العلمي والترجمة، والابتكار العلمي، والإنتاج المعرفي، ولهذا تصبح مسألة الهجرة طمعاً في أسلوب جديد في التعليم والتعلم ضرورة وجودية وملحة أكثر مما اتخيل. وتشكلت في داخلي صورة ثابتة ومتحولة في آن واحد: ان الحياة التي كنت أقترفها في المدرسة كانت تجربة معجونة بالأمل والخيبة والفرح والحزن النبيل، لكنها كانت حياة قسرية، فلا إذكر أن أستاذاً واحداً كان متحرراً من صورة الأب المتفوق على أبنائه في كل تفاصيل الحياة، أو المتفوق عليهم في قداسته المتخيلة. لمإذا لا تُدرِّس الموسيقى، ولا تُدرِّس مهارات التفكير الناقد والحر بل أنها تحتقر الرقص والموسيقى والفلسفة باعتبارها علوم فاسدة. ومن خلال هذه المنظومة الهشة من التعليم والتلقين، أصبحت المعرفة مادة بنكية محضة، ووظيفتها تقييم قدرة المتعلم على حفظ المقولات الثابتة والوطنية الزائفة وأصبح دور المعلم التلقين حتى وإن كانت الوسائل التعليمية حديثة.
حلم العودة:
عندما يصبح الإنسان العربي مغترباً في تعليم طلابه وأبنائه في عقر داره، ومغترباً عن حقيقته الجوهرية كإنسان يصنع التاريخ وكأنه مجرد سن في دولاب تتحكم به مصانع التعليم والمعرفة، وتعيد إنتاجه كمواطن مجهول لا بد من الهجرة ولكن لا بد من النقد الذاتي والنقد الذاتي مطرقة حديدية يراد بها كسر جمجمة الواقع، وهذا بحد ذاته وسيلة للبناء ومراجعة الذات والواقع، ولهذا ارتأيت أن أتحدث عن صيرورة التعليم والتعلم في بلادنا بوصفها نظاماً ثقافياً واجتماعياً وأيديولوجياً يعيد إنتاج أبناء وبنات جيل بعد حيل بكل تجلياتنا الهشة والمسلوبة من حريتها، والمنهوبة فكرياً وحضارياً واقتصادياً، والمغتربة عن واقعها الوجودي والديني والاجتماعي والاقتصادي. تشير معظم الكلاسيكيات وأدبيات الفكر الإنساني عبر التاريخ أن التعليم ومنهجياته المتعددة ومشاربه الأيديولوجية والدينية والمعرفية تشكل الوعي الإنساني، وتعيد بناءه، بل وتحركه وتذكي من خلاله ضرورة التغيير على مستوى الفرد والمجتمع ومن لا يتغير فحياته إلى الفناء!!